جاري تحميل ... كنز الخطباء

إعلان الرئيسية

جديد الخطب

خطب الأحكام

خطبة عن الوضوء

 خطبة عن الوضوء



الحمد لله رب العالمين، أنزل من السماء ماءً ليطهركم به، أحمده سبحانه، يحب التوابين ويحب المتطهرين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، جعل من الماء كل شيء حيٍّ، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، سيدُ الأولين والآخرين، وقائدُ الغرِّ المحجَّلِين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأوصيكم – أيها الناس – بتقوى الله سبحانه وتعالى، فنعمتُ بضاعةُ المؤمنِ التقوى، وهي وصيَّةُ الله للخلق أجمعين }وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ{
[النساء: 131].

عباد الله: نعم الله على عباده لا تُحصى، غير أن هناك نعمةً هي أعظم النِّعم على المسلمين قاطبةً، إنها نعمة الإسلام، دينُ الحنيفية ملةِ إبراهيمَ. الإسلامُ الذي هو الاستسلام لله تعالى، والانقيادُ له بالطاعة، والبراءةُ من الشركِ وأهله، وما مِن عبادة شرعها الله عز وجل، إلا وهي داخلة في الإيمان، يزيد الإيمان بفعلها، وينقص بتركها أو التهاون بها.

وإن من أوائل ما نزل على رسولنا r من التشريعات قوله تعالى: }وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ{ [المدثر: 4]، والمقصود من الطهارة هنا كما ذكر شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّةَ - رحمه الله - ثلاثة أنواع: الطهارة من الكفر والفسوق، فكما أن الكفار يوصفون بالنجاسة، فبعكسهم المؤمن }إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ{ [التوبة: 28]، والطهارة من الحدث، والطهارة من النجاسات كلِّها.

ولقد امتازت أمةُ الإسلام عن غيرها من الأمم بالطهارة والنظافة، حتى أن الطهارة من الأحداث تعادل نصفَ الإيمان، يقول ابن مالك الأشعري: قال رسول الله r: «الطَّهُور شَطْرُ الإيمان» [رواه مسلم].

عباد الله: الوضوءُ هو النظافة والطهارة، فإذا تَنَظَّفَ المُصَلِّي صار وضيئًا مشرقًا، مقبلاً على الله.

والوضوء فريضة لازمة على كل مسلم، يقول الله تعالى في سورة المائدة: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ{ [المائدة: 6].

إن أعظمَ ما شرع له الوضوء هو الصلاة، يقول الرسول r: «لا يَقْبَلُ الله صلاةً بغيرِ طَهور» [رواه مسلم]، وروى البخاري ومسلم أيضًا أن النبي r قال: «لا يقبلُ اللهُ صلاةَ أحدكم إذا أحدثَ حتى يتوضأ».

إنَّ من رحمة الله تعالى بكم – أيها الناس – أن شرع لكم من العبادات ما يكون سببًا لتكفير السيئات، وإن الإنسان لا يمكن أن يُصْدِرَ أيَّ عملٍ إلا من أحد أربعة مواضع: الوجهُ واليدانِ والرأسُ والرجلانِ، فحواس الإنسان تجتمع في هذه المواضع، وقد جاء الوضوء ليكون مُكَفِّرًا لكل ما يصدر من هذه الأعضاء، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة t أن رسول الله r قال: «إذا توضأ العبدُ المسلم – أو المؤمن – فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئةٍ نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب»، وروى مسلم أيضًا أن الرسول r قال: «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره».

عباد الله: إذا جاء يوم القيامة، واختلطت الأمم امتازت أمة محمد r بالوضوء، فعن أبي حازم قال: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة فكان يمد يده حتى يبلغ إبطه، فقلت له: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فَرُّوخ، أنتم هاهنا، لو علمت أنكم هاهنا ما توضأ هذا الوضوء، سمعت خليلي r يقول: «تبلغُ الحليةُ من المؤمن حيث يبلغُ الوضوءِ» [رواه مسلم]، وعن أبي الدرداء t قال: قال رسول الله r: «أنا أول من يُؤْذَنَ له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يؤذن له أن يرفعَ رأسَه، فأنظر إلى ما بين يدي، فأعرفُ أمتي من بين الأمم، ومن خلفي مثلُ ذلك، وعن يميني مثلُ ذلك، وعن شمالي مثلُ ذلك»، فقال رجل: يا رسول الله، كيف تعرف أمتك من بين الأمم، فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال: «هم غُرٌّ مُحَجَّلُون من أثر الوضوء، ليس أحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتون كُتُبَهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذُرِّيَتِهم» [رواه الإمام أحمد وأصله في الصحيحين].

عباد الله: الوضوء سبب لتكفير الذنوب والخطايا، عن عثمان بن عفان t قال: قال رسول الله r: «ما من امريءٍ مسلمٍ تحضره صلاةٌ مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهرَ كلَّه» [رواه مسلم].

الصلاة مفتاحُ الجنة، ومفتاحُ الصلاة الوضوءُ، يقول الرسول r: «مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الوضوء» [رواه أحمد والترمذي].

بل إن الوضوء وحده - عباد الله – موجبٌ لانفتاح أبواب الجنة الثمانية يتخير أيها شاء، كما صح ذلك عن الرسول r كما في صحيح الإمام مسلم.

عباد الله: الشيطان خلقه الله من نار، والنار إنما تُطفأ بالماء، ولأجل ذا شُرع الوضوء في المواضع التي يُشعلها الشيطان أو يَحضُرها، فالوضوء يُخمِد ثوران النفس، يقول الرسول r: «إذا غضب أحدكم فليتوضأ» [رواه أحمد].

الإبل خلقت من شياطين، ألم تروا إلى ما يصاحب أصحابها من الخيلاء والأنفة والكبر، ولهذا أُمر المصلى أن يتوضأ من لحوم الإبل.

إن شأن الوضوء أعظم من ذلك، هو طارد للشيطان، مُنْهٍ لدابره، فإذا أراد النائم أن يرتاح في نومه؛ فعليه أن يتوضأ، يقول البراء بن عازب t قال رسول الله r: «إذا أتيتَ مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمتُ وجهي إليك...» الخ الدعاء [متفق عليه].

فإذا نام الإنسان على غير وضوء فإن نومه مجال للشيطان، يلعب فيه، ويشوش، فإن استيقظ النائم فبدأ بالوضوء، أفسد على الشيطان كل ما صنع، يقول الرسول r: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاثَ عُقد إذا نام، بكل عقدة يضرب: عليك ليلٌ طويلٌ، فإذا استيقظ فذكر الله - عز وجل - انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدتان، فإن قام فصلى انحلت عُقده الثلاث، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان» [متفق عليه]، ولا غرو – عباد الله – إن فرَّط النائم في هذه الأمور أن يبول الشيطان في أذنيه، ولما أخبر الرسول r عن رجل نام حتى أصبح قال: «ذاك رجلٌ بالَ الشيطانُ في أذنيه».

عباد الله: الوضوء مشروع في مواضع كثيرة، فلا يَمس القرآنَ إلا طاهرٌ، ولا يطوف بالبيت محدٍِثٌ، وإذا كان الإنسان جُنُبًا؛ فأراد أن يأكل فيُسن له أن يتوضأ، تقول عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله r إذا كان جُنُبًا فأراد أن يأكل، أو ينام توضأ وضوءَه للصلاة» [رواه مسلم]، وروى مسلم أيضًا أن الرسول r قال: «إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعودَ فليتوضأ».

العين حق، ومن عان أخاه فليتوضأ له، لما اغتسل سهل بن حنيف بالخرَّار، نزع جُبَّةً كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، وكان سَهل رجلاً أبيض حسن الجلد، فقال له عامر: ما رأيت كاليوم، ولا جلد عذراء!! فما تعدى سهل مكانه حتى وُعِك ومَرِضَ، فأُخبر الرسول r فقال: «علامَ يقتل أحدكم أخاه؟ ألا برَّكْتَ عليه، إن العين حق، تَوضَّأْ له» فتوضأ له عامر، فقام سَهل ما به بأس. [رواه مالك في الموطأ].

فاتقوا الله عباد الله، وواظبوا على ما أمركم، تفوزوا وتفلحوا، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

من الوضوء

الحمد لله الذي ميزنا على غيرنا بالطهور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل من الماء كل شيء حيٍّ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، كان دينه وسطًا بين الغُلُّوِ والتفريط، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واجعلوها لكم شعارًا ودِثَارًا.

عباد الله: إن حديثًا عن الوضوء لابد أن يشتمل على أربعة أمور:

أولها: أن من حافظ على هذا الوضوء في كل يوم وليلة؛ فإنه جدير أن يتصف بالإيمان، ومن هنا نعلم قول الرسول r في الحديث الذي رواه ثوبان t، أنه قال: «استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يُحافظ على الوضوء إلا مؤمن» [رواه مالك وأحمد وابن ماجه والدارمي]، فما بالكم عباد الله بمن لا يحافظ على الصلاة، أترونه يحافظ على الوضوء؟!!

ثاني الأمور – عباد الله –: أن الوضوء عبادة، وكل عبادة لابد أن تؤخذ عن النبي r، فهذا الوضوء، من نقص فيه عن صفة وضوءِ رسول الله r فقد أخطأ، ومن زاد فقد تعدى. يقول عبد الله بن عمرو t وعن أبيه رجعنا مع رسول الله r من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماءٍ بالطريق، تَعَجَّل قوم عند العصر، فتوضؤوا وهم عُجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يَمسها الماء، فقال رسول الله r: «ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء» [رواه مسلم].

أيها الناس: توضأ رسول الله r وغسيل أعضاءه مرةً مرةً، وتوضأ أخرى فغسلها مرتين مرتين، وتوضأ ثالثة فغسل أعضاءه ثلاثًا ثلاثًا، فمن زاد عن الثلاث فقد خالف السنة، وجاء أعرابي إلى رسول الله r، يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال r: «هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء، وتعدَّى وظلم» [رواه النسائي وابن ماجة بأسانيد صحيحة].

وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن المغفل t أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله r يقول: «سيكونُ في أمتي قومٌ يَعْتدون في الطَّهور والدعاء».

ثالث الأمور – عباد الله -: أن هذا الوضوء الذي يتجدد على المرء في يومه وليلته، يذكرنا بنعمة عظمى منَّ الله بها على عباده، وهي نعمة الماء الطهور }وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا{
[الفرقان: 48]،
}وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ{ [الأنبياء: 30]، أنزل الماء ليكون رِيًّا للظمآن، وإنباتًا للزرع، وإدرارًا للضرع، وتطهيرًا للأبدان وجمالاً للمنظر، ألم تروا أن البلدَ إذا أجدب من المطر والغيث؛ ذهب عنه نوره وبهاؤه.

وإن الوضوء لم يكن ولن يكون أبدًا من أبواب الإسراف في الماء، فلقد كان r يتوضأ بالمُدِّ، ويغتسل بالصاع، وكان أوفر الناس شعرًا، فما أدري الآن ما منزلة الصاع من وضوء أحدكم؛ فكيف بغسله.

يقال في الحكمة: من وَهَنِ علمِ الرجلِ وُلُوعه بالماء في الطهور، وجاء في حديث – في سنده ضعف – أن الرسول r مر على سعد وهو يتوضأ، فقال: «ما هذا السرف يا سعد»، قال: أفي الوضوء سَرَفٌ يا رسول الله؟ قال: «نعم، وإن كنتَ على نهرٍ جارٍ»
[رواه أحمد وابن ماجه].

عباد الله: خير ما يقال في هذا المقام: ما عرف قدرَ الماءِ من أسرف في الماء.

رابع الأمور المتعلقة بالوضوء: أنه كما أن الوضوء يُطرد به الشيطان، فإن الوضوء مرتع خصب يجول الشيطان من خلاله على قلوب بني آدم، يقول إبراهيم بن أدهم: يقال: إن أول ما يبتدئ الوسواس من قبل الطهور. ويقول الحسن البصري: إن شيطانًا يضحك بالناس في الوضوء، يقال له: الولهان.

فترى أحدهم إذا جاء للوضوء لعب به الشيطان، فجعل يخلط عليه نيته، يقول: ارفع الحدث، لا بل استعد للصلاة، لا بل أتطهر، إلى غير ذلك من ألفاظ يلبس بها الشيطان على أهل الوضوء، بل ربما فات الإنسان وقت الصلاة، وهو لا يزال في معركة وضوءه، يتوضأ أحدهم بما يعادل القُلَّتين من الماء، ولا زال في نفسه: أَبَلَغَ الماء إلى جميع مواضع الوضوء، أم لا؟!!. ويؤثر أن أحد الْمُبتلين رأى أبا الوفاء ابن عقيل يتوضأ، فتعجب من قِلة استعماله الماءَ، ثم قال: إني لأنغمس في النهر، ثم أخرج منه، وأشك: هل صَحَّ وضوئي أم لا؟ فقال له ابن عقيل: لقد سقطت عنك الصلاة؛ لأن الرسول r يقول: «رفع القلم عن ثلاثة: » وذكر منهم: «المجنون حتى يفيق»، وأنت هو، }قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ{ السورة [الناس: 1-3].

اللهم صلِّ على مُعلم الناس الخيرَ: محمد r وارض اللهم عن أصحابه أجمعين...

 

الوسوم:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *