خطبة بعنوان: (تَسوِيَةُ الصُّفُوفِ)
الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى-
وَأَطِيعُوهُ، اتَّقُوهُ فِي السَّـرَّاءِ فَاشْكُرُوا وَلَا تَبْطُرُوا، وَاتَّقُوهُ
فِي الضَّرَّاءِ فَلَا تَجْزَعُوا وَلَا تَيْأَسُوا، وَاتَّقُوهُ فِي الْعَافِيَةِ
فَلَا تَغْتَرُّوا، وَاتَّقُوهُ فِي الْبَلَاءِ فَلَا تَسْخَطُوا، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: أَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ المُؤمِنِينَ بإِقَامَةُ الصَّلاةِ، فقَالَ -جَلَّ وَعَلا- في آيَاتٍ كَثِيرَةٍ : ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾، وَمِمَّا مَدَحَ - تَعَالى - بِهِ عِبَادَهُ المُتَّقِينَ، الَّذِينَ لا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ ، أَنَّهُم ﴿يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾.
وَإِقَامَةُ الصَّلاةِ - عِبَادَ اللهِ - أَمرٌ أَوسَعُ مِن مُجَرَّدِ أَدَائِهَا،
فَهُوَ يَشمَلُ فِعلَهَا وَالمُحَافَظَةَ عَلَيهَا، وَحِفظَ أَوقَاتِهَا، وَالإِتيَانَ
بِأَركَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَسُنَنِهَا ، وَالطُّمَأنِينَةَ فِيهَا، وَالخُشُوعَ
للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ، وَشُهُودَهَا في بُيُوتِ اللهِ مَعَ الرَّاكِعِينَ، والتَّبكِيرَ
إِلَيهَا، وَكَثرَةَ ذِكرِ اللهِ فِيهَا، إِلى غَيرِ ذَلِكَ مِمَّا يَلزَمُ لإِقَامَتِهَا
وَإِتمَامِهَا.
وَإِنَّ مِمَّا هُوَ مِن إِقَامَةِ الصَّلاةِ
بِنَصِّ كَلامِ نَبِيِّنَاﷺ: تَسوِيَةُ الصُّفُوفِ فِيهَا، قَالَ-عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-:
(سَوُّوا صُفُوفَكُم فَإِنَّ تَسوِيَةَ الصَّفِّ مِن تَمَامِ الصَّلاةِ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ
وَمُسلِمٌ، وَفي رِوَايَةٍ لِلبُخَارِيِّ : (سَوُّوا صُفُوفَكُم فَإِنَّ تَسوِيَةَ
الصُّفُوفِ مِن إِقَامَةِ الصَّلاةِ)، وَعَنِ النُّعمَانِ بنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللهُ
عَنهُمَا - قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِﷺ يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا
يُسَوِّي بِهَا القِدَاحَ، حَتَّى رَأَى أَنَّا قَد عَقَلنَا عَنهُ ، ثُمَّ خَرَجَ
يَومًا فَقَامَ حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ، فَرَأَى رَجُلاً بَادِيًا صَدرُهُ مِنَ الصَّفِّ،
فَقَالَ: (عِبَادَ اللَّهِ، لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُم أَو لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَينَ
وُجُوهِكُم) رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
مَعَاشَرَ المؤْمِنِين: وَتَسوِيَةُ الصُّفُوفِ
المَأمُورُ بها تَشمَلُ أُمُورًا، مِنهَا: اِسْتِقَامَةُ الصَّفِّ، وَإِقَامَتُهُ،
وَتَعْدِيلُهُ، بِحَيْثُ لَا يَتَقَدَّمَ صَدْرُ أَحَدٍ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى
مَنْ هُوَ بِجَنْبِهِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ عِوَجٌ، وَالمُعتَبَرُ في هَذَا هُوَ المَنَاكِبُ
في أَعَلَى البَدَنِ، وَالأَكعُبُ في أَسفَلِهِ، ولَا اعْتِبَارَ بمُقَدَّمِ الأَرجُلِ
مِن جِهَةِ الأَصَابِعِ، فَهَذِهِ تَختَلِفُ في الطُّولِ والقِصَرِ.
وَمِن تَسوِيَةُ الصُّفُوفِ: التَّراصُّ
في الصَّفِّ، وَقدْ كَانَ النَّبيُّﷺ يَأمُرُ بِهِ كَمَا تَصُفُّ المَلائِكَةُ
عِندَ رَبِّهَا، فَعَن جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ : خَرَجَ عَلَينَا
رَسُولُ اللهِﷺ فَقَالَ : (أَلا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ المَلائِكَةُ عِندَ رَبِّهَا؟)
فَقُلنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَكَيفَ تَصُفُّ المَلائِكَةُ عِندَ رَبِّهَا؟ قَالَ:
(يُتِمُّونَ الصُّفُوفُ الأُوَلَ، وَيَتَرَاصُّونَ في الصَّفِّ) رَوَاهُ مُسلِمٌ. وَلَيسَ
المُرَادُ بِالتَّراصِّ في الصَّفِّ التَّزَاحُمَ الشَّدِيدَ المُؤذِيَ ، الَّذِي قَد
يَشغَلُ المُصَلِّيَ عَن صَلاتِهِ ، أَو يُوقِعُ في نَفسِهِ عَلَى أَخِيهِ شَيئًا ،
وَلَكِنَّ المُرَادَ بِهِ تَقَارُبُ المُصَلِّينَ وَتَلاصُقُهُم، حَتى لا يُترَكَ لِلشَّيطَانِ
فُرَجٌ يَدخُلُ مَعَهَا وَيُشَوِّشُ عَلَيهِم صَلاتَهُم، وَلِهَذَا كَانَﷺ يَقُولُ : (أَقِيمُوا الصُّفُوفَ ، وَحَاذُوا بَينَ المَنَاكِبِ ، وَسُدُّوا
الخَلَلَ ، وَلِينُوا بِأَيدِي إِخوَانِكُم، وَلا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيطَانِ،
وَمَن وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللهُ، وَمَن قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللهُ).
وَمِن تَسوِيَةُ الصُّفُوفِ: إِكمَالُهَا
الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ ، فَلا يُشرَعُ في صَفٍّ حَتى يَكمُلَ الصَّفُّ الَّذِي أَمَامَهُ
، وَقَد رغَّبَ النَّبيُّﷺ إِلى التَّقَدُّمِ وَالتَّبكِيرِ وَتَكمِيلِ الصَّفِّ الأَوَّلِ فَقَالَ:
(لَو يَعلَمُ النَّاسُ مَا في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لم يَجِدُوا إِلاَّ
أَن يَستَهِمُوا عَلَيهِ لاستَهَمُوا) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وقَالَ لِأَصْحَابِهِ لَمَّا
رَأَى فِيْهُمْ
وَمِن تَسوِيَةُ الصُّفُوفِ: التَّقَارُبُ
فِيمَا بَينَهَا، وَبَينَهَا وَبَينَ الإِمَامِ ؛ لأَنَّهُم جَمَاعَةٌ ، وَالجَمَاعَةُ
مَأخُوذَةٌ مِنَ الاجتِمَاعِ ، وَلا اجتِمَاعَ كَامِلَ مَعَ التَّبَاعُدِ ، فَكُلَّمَا
قَرُبَتِ الصُّفُوفُ بَعضُهَا إِلى بَعضٍ وَقَرُبَت من الإِمَامِ ، كَانَ ذَلِكَ أَفضَلَ
وَأَكمَلَ.
وَمِن تَسوِيَةُ الصُّفُوفِ: أَن يَدنُوَ
المَرءُ مِنَ الإِمَامِ، وأَفْضَلُ مَوْقِفٍ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَكُونَ خَلْفَ الْإِمَامِ
مُبَاشَرَةً، ثُمَّ مَيْمَنَةَ الصَّفِّ الْقَرِيبَةَ مِنَ الْإِمَامِ، وَقَدْ كَانَ
الصَّحَابَةُ يَحْرِصُونَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ، كَمَا قَالَ الْبَرَاءُ -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ-: "كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ الْإمَامِ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ مَيْمَنِهِ، يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ"
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ
الْعَظِيمِ...
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشّكْرُ
لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا
لَشَأْنِهِ، وأشهدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدّاعِي إِلَى
رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وأصْحَابِهِ وسَلّم تَسْلِيمًا
كثيرًا. أَمَّا بَعْدُ: فاتَّقوا اللهَ وأَطِيْعُوهُ، ورَاقِبُوهُ ولاَ تعْصُوه.
أَيُّهَا النَّاسُ: بَعْدَ عَامَيْنِ عُدْنَا
لِتَرَاصِّ صُفُوفِنَا كَمَا كَانَتْ بِحَمْدِ اللهِ تَعَالَىَ، وكَيْفَ لَا نَفْرَحُ
وَهُوَ إِشَارَةٌ عَلَى اِنْحِسَارِ الجَائِحَةِ وَقُرْبِ زَوَالِهَا بِإِذْنِ اللهِ،
وكَيْفَ لَا نَفْرَحُ وَنَحْنُ نَعُودُ لِتَرَاصِّ الصُّفُوفِ الذِي كَانَ يَحْرِصُ
عَلَيْهُ رَسُولُ اللهِﷺ، وَكَانَ يَحْرِصُ عَلَيْهِ الخُلَفَاءُ الرَّاشِدِونَ مِنْ بَعْدِهِ،
قَالَ اِبْنُ عَبْدِ البَرِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: (وَأَمَّا تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ فِي
الصَّلَاةِ: فَالآثَارُ فِيهَا مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى، صِحَاحٌ كُلُّهَا،
ثَابِتَةٌ فِي أَمْرِ رَسُولِ اللهِﷺ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ، وَعَمَلِ الخُلَفَاءِ
الرَّاشِدِينَ بِذَلِكَ بَعْدَهُ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيْمَا بَيْنَ العُلَمَاءِ
فِيهِ).
عِبَادَ اللهِ: وَإِنَّ مِمَّا عَاشَهُ الناس مع الجَائِحَةِ وما صَاحَبَها مِن احْتِرَازاتٍ، قَد تَرَكَ في أَذهَانِ الكَثِيرِ خَوفًا مِن تَقَارُبِ الأَبدَانِ، ومَا زَالَ الشَّيطَانُ يُوَسوِسُ عَلَيهِم حَتى تَجَاوَزُوا حَدَّ الحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، فَأَلِفُوا الوُقُوفَ في صَلَوَاتِهِم مُتَبَاعِدِينَ مُتَفَرِّقِينَ، غَيرَ مُسَوِّينَ لِصُفُوفِهِم وَلا مُتَرَاصِّينَ
وَإِذَا كَانَتِ الفَتوَى بِذَاكَ التَّبَاعُدِ فِيمَا مَضَـى لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيهِ،
فَقَد زَالَتِ الحَاجَةُ وَذَهَبَتِ الضَّرُورَةُ ، وَخُفِّفَتِ الاحتِرَازَاتُ بِتَوجِيهِ
من وَليِّ الأَمرِ المَبنيِّ عَلَى رَأيِ أَهلِ الشَّأنِ وَالاختِصَاصِ، فَعَادَ الأَمرُ
بِتَسوِيَةِ الصُّفُوفِ وَإِقَامَتِهَا وَالتَّرَاصِّ فِيهَا إِلى الأَصلِ الَّذِي
هُوَ عَلَيهِ؛ لأَنَّهُ مِمَّا أَمَرَ بِهِ النَّبيُّﷺ وَتَوَلاَّهُ بِنَفسِهِ
، وَاهتَمَّ بِهِ أَشَدَّ الاهتِمَامِ.
هَذَا وصَلُّوُا وسَلِّمُوُا عَلَى المبْعُوْثِ
رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ، كَمَا قَالَ رَبُّكُمْ فِيْ كِتَابِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ...﴾
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وبَارِكْ عَلَى
عَبْدِكَ ورَسُوْلِكَ مُحمَّدٍ، وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ، وارْضَ اللَّهُمَّ
عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وصَحَابَتِهِ والتَّابِعِيْنَ، ومَنْ تَبِعَهُمْ
بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
اللَّهُمْ أعِزَّ الإسْلَامَ والمُسْلِمِيْنَ،
وأَذِلَّ الشِّـرْكَ والمُشْـرِكِيْنَ، ودَمِّرْ أَعْدَاءَ الدِّيْنِ، واجْعَلْ هَذَا
البَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا رَخَاءً وسَائِرَ بِلَادِ المسْلِمِيْنَ.. اللَّهُمْ
مَنْ أَرَادَ بِالإِسْلِامِ والمُسْلِمِيْنَ سُوْءٍ فَأَشْغِلْهُ فِي نَفْسِهِ، وَرُدَّ
كَيْدَهُ فِيْ نَحْرِهِ، واجْعَلْ دَائِرَةَ السَّوْءِ عَلَيْهِ يَا رَبَّ العَالمِيْنَ.
اللَّهُمْ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوُلَاةَ
أُمُوْرِ المُسْلِمِيْنَ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وخُذْ بِهِمْ لِلْبِرِّ والتَّقْوَى،
اللَّهُمْ وَفِّقْهُمْ لِتَحْكِيْمِ شَرْعِكَ، واتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّكَ، واجْعَلْهُمْ
رَحْمَةً عَلَى عِبَادِكِ المُؤْمِنِيْنَ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً،
وَفِيْ الآَخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
سُبْحَانَ رَبِّنا رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا
يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق